كان عمر قويا في الحق ولو على نفسه ومن يحب، بل خصوصاً على نفسه ومن يحب، وإن المواقف التي تؤكد ذلك أكثر من أن تحصى أو تعد، ولكننا نتوقف أمام هذا الموقف الذي يتعذر بل يستحيل أن يتكرر، فقد أقام عمر الحد على أحد أعز أبنائه لديه، ولم تشفع له توبته ولا شفاعة أمه فيه وبكاء المسلمين الحاضرين حتى مات ابنه بين يديه، ففي أحد الأيام كان عمر جالساً في المسجد والناس حوله، فأقبلت جارية فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: وعليك السلام ورحمة الله، ألك حاجة؟ قالت: نعم، خذ ولدك هذا مني، قال عمر: إني لا أعرفك، فبكت الجارية وقالت: يا أمير المؤمنين إن لم يكن ولدك من ظهرك فهو ولد ولدك، قال: أي أولادي؟ قالت: أبو شحمة، قال: أبحلال أم بحرام؟ قالت: من قبلي بحلال ومن جهته بحرام، قال عمر: وكيف ذاك؟ اتقي الله ولا تقولي إلا حقاً، وروت الجارية قصتها قالت: يا أمير المؤمنين، كنت مارة في أحد الأيام إذ مررت بحائط لبني النجار، إذ أتى ولدك أبو شحمة يتمايل سكراً، وكان شرب عنده نسيكة اليهودي، فراودني عن نفسي وجرني إلى الحائط ونال مني وقد أغمي عليّ، فكتمت أمري عن عمي وجيراني حتى أحسست بالولادة فخرجت إلى موضع كذا ووضعت هذا الغلام، وهممت بقتله ثم ندمت على ذلك، فاحكم بحكم الله بيني وبينه.
أمر عمر منادياً ينادي فأقبل الناس يهرعون إلى المسجد، ثم قام عمر فقال: لا تتفرقوا حتى آتيكم، ثم خرج فقال لعبد الله بن عباس رضي الله عنه: يا ابن عباس أسرع معي، فأتى منزله فقرع الباب وقال: هاهنا ابني أبو شحمة، فقيل له: إنه على الطعام، فدخل عليه وقال: كل يا بني فيوشك أن يكون آخر زادك، فسقطت اللقمة من يده من الفزع.
قال عمر لابنه: يا بني من أنا؟ قال: أنت أبي وأمير المؤمنين، قال عمر: فلي من طاعة أم لا؟ قال طاعتان مفترضتان، لأنك والدي وأمير المؤمنين، فسأله عمر عن الواقعة فأقر الغلام بها، وقال إنه ندم وتاب إلى الله، وفوض أمره إلى أبيه إن شاء أن يقتله ولا يفضحه، فاقتاده عمر إلى المسجد، وكان له مملوك يقال له أفلح، فأمره أن يجلده مائة جلدة، فنزع أفلح ثياب الغلام بينما الناس في المسجد يبكون، وتوسل الغلام لعمر قائلاً: يا أبت ارحمني، قال عمر: ربك يرحمك، إنما أفعل ذلك ليرحمني ويرحمك.
فإذا بلغ عدد الجلدات التي تلقاها الغلام ثمانين جلدة برح به الألم فصرخ قائلاً: يا أبت السلام عليك، فقال: وعليك السلام، إن رأيت محمداً فأقرئه مني السلام وقل له خلفت عمر يقرأ القرآن ويقيم الحدود، فلما بلغت الجلدات تسعين انقطع كلامه وخارت قواه، فقال له الصحابة: يا عمر، انظر كم بقي فأخره إلى وقت آخر، فقال: كما لم يؤخر المعصية لا تؤخر العقوبة.
ووصل الصراخ إلى أم الغلام فجاءت إلى عمر باكية صارخة: يا عمر أحج بكل سوط حجة ماشية وأتصدق بكذا وكذا درهم، فقال: إن الحج والصدقة لا ينوبان عن الحد، يا غلام تمم الحد، فلما كانت آخر جلدة سقط الغلام ميتاً، فقال عمر وهو يصيح: يا بني محص الله عنك الخطايا، ثم جعل رأسه في حجره وهو يبكي، فضج الناس بالبكاء والنحيب.
حتى إذا مر أربعون يوماً قال حذيفة بن اليمان: “ إني رأيت رسول الله في المنام وإذا الفتى معه وعليه حلتان خضراوان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرئ عمر مني السلام وقل له: هكذا أمرك الله أن تقرأ القرآن وتقيم الحدود، وقال الغلام: يا حذيفة أقرئ أبي السلام وقل له: طهرك الله كما طهرتني” (9). وهكذا ضحى عمر بابنه ليقيم شرع الله